
“حبيبتي والتوحيد” وليس “موسى والتوحيد ” لسيجموند فرويد فهي حكاية من الخليج. وصديقي هو بطلها وهو مثقف كان يشد رحاله في كل ليلة نحو قصور الدولة العباسية ويتجول في شوارع بغداد . ولم تكن تلك الاسفار إلا لأجل البحث عن ذاته التي تاهت بين مطرقة الشك وسندان اليقين .
فتارة يرى الخالق من حدائق الاندلس بعيون “ابن رشد” وتارة يراه من الخانكة في حضرة أبو حامد الغزالي . ويبدو بأن الاخير قد ترك فيه الاثر الاكبر إلى أن وجد نفسه قد رضع من أفكاره ، وراح يختبر تلك الافكار تحت مجهر الشك فهو أول مراتب اليقين كما يقول “ديكارت”. وحينما راح يحاول أن يثبت معتقداته بناءا على الدليل العقلي لا الموروث الديني ، كان قد تفاجأ بأنه في حرب مع ذاته ، وما كان منه إلا أن يعتزل الناس ويحيط نفسه بجدار يحمي نفسه من نفسه التي كادت أن تصادر له عقله .
وفي إحدى المناسبات الثقافية كان موعده مع وهج من نور بل هو من يضخ الحياة في النور ، وقد يكون هو ذلك النور نفسه الذي اهتدى به قلب “الغزالي” . فقد رست قبالته فتاة وكأنها مزيج من جمال كل حضارات الارض . وما ان بدأ يتيه في ملامحها حتى خيل له حينها بأن الاصوات من حوله قد بدأت بالتلاشي وبينما هو في القطيف . الا أن يمناه صارت تسمع أصوات تكبيرات تنبعث من مآذن النجف ، ويسراه تسمع صوت قرع أجراس قادمة من الجليل . ثم شعر بلحظة صمت مطلق وكأن الطبيعة في لحظة سجود للرب . وفجأة بدأ الناس من حواليه بالاختفاء واحد تلو الاخر وأحس بأن الارض من تحت قدميه قد تحولت إلى سحاب . وراح نور الشمس يسطع من خلف تلك الفتاة ، فاستحال الموقف إلى لوحة رائعة لا تحدث إلا مرة واحدة كل عشرة آلاف سنة . وبدأت شفتيه تتمتم قائلة “سبحان الله”.
وانطلق يتأمل في التناغم الساحر بين تموج حاجبيها ورقصات عيونها ولحن حروفها التي كانت تفوح كالعنبر من بين شفتيها . وأحس بأنها نموذج مصغر لروعة الفلك الذي تدور فيه الشمس والقمر وكل الكواكب بكل دقة ، فطلتها تلك لا تختلف إطلاقا عن مشهد روعة إطلالة الشمس عند الشروق .
ثم دارت رحى الايام وخيل له بأنه يجلس مع الغزالي ويدعوه لأن يترك الامراء في قصور أشبيلية ويحط رحاله في شاطئ الخليج . ليرى بأم عينه تلك الفتاة حينما خبأت اللؤلؤ المصفوف بيدها ، وراحت تتمايل ضاحكة وزخات من الأمواج تدغدغ قدميها . ويدعوه أيضا كي يراها وهي تلف خصلات من شعرها بأطراف أناملها متمتمة بطرب عراقي أصيل .
فلقد كانت تلك الحسناء خير دليل على فلسفة الغزالي التي ربط فيها كل أنواع الجمال بالجمال (الالهي) . وان الجمال الحقيقي عندما تدركه القوى الحسية والقوى الباطنة من شأنه أن يدعوك لأن ترى الخالق كما يجب أن تراه لتهيم في عشقه مثل ما الصالحين . وأنه لا جمال في هذه الدنيا إلا وهو حسنة من حسنات الخالق وأثر من جوده وكرمه على عباده .
وختاما يقول صديقي المثقف شكرا لتلك (المشاكسة) التي لولاها ما أدرك قيمة عبارة ابو حامد الغزالي حينما قال “من لم يحركه الربيع وأزهاره , والعود و أوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج”
وهنا كانت محطته الاخيرة عبر قاطرة الشكوك والتي لو لم يترجل منها لربما كان نزيل في إحدى المصحات النفسي.