
بسم الله الرحمن الرحيم – … «2» كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «3» … – صدق الله العظيم – فصلت.
الماهابهاراتا أطول قصيدة ملحمية كتبت باللغة السنسكريتية في الهند القديمة قبل 2900 سنة أو 2400 سنة. تاريخها ليس معروفا بالضبط، ولكن لا أحد ينكر أقدميتها وطولها الفاحش. تتكون القصيدة من 200 ألف بيت بصياغة 1.8 مليون كلمة. هي ملحمة تحكي حرب بين ابني عم. تنسب القصيدة إلى ڨياسا (Vyasa) والذي يظن الهندوس بأنه تَجَسُّدُ جُزْءٍ من الإله ڨيشنو (Vishnu) على الأرض؛ فكر مقارب لاعتقاد النصارى في نبي الله عيسى (ع). الهندوس يقدسون هذه القصيدة ويعتبرونها كنزهم.
تخيل أن يأتي هندوسيا يحتج علينا بها كدليل على إلههم ڨيشنو وصحة معتقدهم الهندوسي؟! كم سيكون الأمر غريبا وخارجا عن المنطق والعقلانية؟! وحينما تطلب منه الدليل العقلي والمنطقي، يرد عليك بأن المعتقدات لا تخضع للمنطق أو العقلانية؟!!!
تجد نفس المنطق عند الكثير من الناس حيث يجعلون كتاباتهم المقدسة كحجة ودليل ليس عليهم فقط ولكن على جميع الخلق ويتذرعون بنفس الحجة بأن المعتقد لا يخضع لعلم أو منطق أو عقلانية. تخيل نروح لغابة الأمازون نبشر للإسلام كما يفعل النصارى ونحاول أن نحاجج تلك الشعوب البدائية التي لا تعرف كيف تنطق الأصوات العربية ناهيك أن تستوعب كلماتها وثقافتها، وفي الأثناء نرمي عليهم كم حديث وكم رواية في حجية القرآن، …الخ.
هذا يعني أننا بحاجة إلى ابتكار حجية للقرآن غير اللغة وخلاف الثقافة والبلاغة. نعم، القرآن بليغ جدا. ولكن حتى أكثر العرب لا يستوعبون هذه البلاغة وذلك لأنها بحاجة لمتخصص ضليع ومتبحر في اللغة. بعض مفاهيم اللغة العربية غير موجودة أصلا في اللغات الأخرى ولا يمكن لهم أن يستوعبونها. ومثال ذلك؛ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. دكا الأولى مفعول مطلق مؤكد للفعل. دكا الثانية مفعول مطلق مؤكد لما قبله. صفا صفا ليسا مفعولين مطلقين ولكنهما حالان يعكسان حال الفاعل (الملك). لو تقعد تشرح لغير العربي طول عمرك أن دكا دكا لا تعرب مثل صفا صفا ما راح يستوعب. حجة القرآن على الشخص العربي المتبحر قد تكون مبررة.
ولكن كيف نقنع (وليس نثبت) للآخر حجية القرآن بعيدا عن اللغة والتراث والثقافة. هل هناك حجج منطقية وعقلانية وعلمية في القرآن؟ الإجابة؛ نعم. سنذكر بعضها لأن المكان لا يسمح بالكثير:
1. منطقيا، لو كان القرآن من عند محمد (ص) لما توانى من ذكر أسماء أهل بيته (ع) ومن يحب بين سطوره. بل لم يتطرق لهم بالاسم لا من قريب ولا من بعيد. هذا يبعد شبهة اختلاق محمد (ص) للقرآن. يقال إن البعض احتج على الرسول (ص) بالقول “حسبنا كتاب الله” حينما أراد أن يوصي النبي (ص). كان باستطاعة الرسول (ص) أن يضيف للقرآن من عنده ويدعي أنه من القرآن، ومنها تبقى وصيته حجة على من اعترض بالقرآن. ولكنه لم يفعل.
2. الناس تزكي من تحب وتعصمهم وتمدحهم لعنان السماء. والبعض يبرر تصرفات السابقين ليفعل هو ما شاء بهذه الحجة. ولكن حينما تطرق القرآن للأنبياء، تكلم عن بشريتهم وكيف أن الله يحاسبهم في كل صغيرة وكبيرة تصل للاغتراب كما حدث ليوسف (ع) وتصل للنبذ في بطن حوت. القرآن وضح محاسن الأنبياء وبين بعض الأماكن الأخرى التي تركوا فيها الأولى.
3. القرآن حاجج وواجه فطاحل اللغة العربية وأقحاحها وعجزوا أن يأتوا بمثله حتى تورط مسلمة بن حبيب الحنفي (مسيلمة الكذاب) أن يأتي بما يماثل القرآن. حينها، احتج عليه العرب بركاكة كتابه مقارنة بالقرآن.
4. القرآن تطرق لنظريات اجتماعية وحالات الإنسان النفسية لا تزال قائمة إلى هذا اليوم، وستبقى ما بقي الإنسان.
5. كلما قرأ الإنسان القرآن اكتشف فيه الجديد ويظل يكتشف كلما قرأ، وكأنه عين نضاخة لا تنضب من العطاء.
6. في قصة الخلق، يتطرق القرآن إلى تعليم آدم الأسماء (اللغة وأسماء الأشياء). وهذا أمر عجزت عنه الملائكة. يتضح أن الله جعل الابتكار فطرة مع الإنسان، وهذه الصفة ليست موجودة مع الملائكة. الإنسان يستطيع التعلم ومواصلة التعليم والاكتشاف والابتكار حتى اكتشف لغة الرياضيات المحكمة والتي لا يمكن لها أن تخطئ. لنتدبر قليلا. هل يعقل للإنسان أن يكتشف (أو يبتكر) لغة لا يمكن أن يعتريها خطأ؟! هذا عمل جبار وهذه عصمة. عندما تمكن الإنسان من هذه اللغة نفذ من أقطار السماء وغاص في أعماق المحيطات وفكك لغة الجينات، وهي الأخرى لغة أودعها الله في جميع خلقه. لغة الجينات من أعقد وأصعب اللغات في العالم.
7. الله لم يستعجل في خلق السماوات والأرض أو حتى خَلْقِ الإنسان بالرغم من أن له القدرة بأن يقول للشيء كن فيكون. الله يريد أن يعلمنا كيف نتطور؛ الصبر والمثابرة والإصرار على الاكتشاف والابداع.
8. يحتج البعض بأن لغة الجينات قد يطرأ عليها الخطأ وتتسبب في مرض أو موت الكائن. لا بأس. أنا عملت في تدريس لغات الحاسوب، ولأعلم الطلاب كيفية البرمجة واكتشاف أسرارها، أزرع أخطاء نحوية أو منطقية وأطلب من الطلاب اكتشافها. الطالب لا يُخلق عالما بلغات الحاسوب. وعليه التدرج. وأول مرحلة نزرع الأخطاء عمدا كي يتعلم. مثل هذا الخطأ في الجينات متعمد وليس عشوائيا؛ كي نتعلم، ونكتشف بعدها أن جينة الإنسان قابلة للخلود والاسترداد (البعث) والاستنساخ. اليوم، يعتقد الكثير من العلماء أن الإنسان سيصل إلى الخلد بعلمه يوما ما إذا تمكن من هندسة الجينات. اليوم، لا يستطيع أن يجد أي كان القدرة على بعث الإنسان من جديد لأن علم الجينات يشير إلى ذلك، وبقوة. في السابق، احتج أهل الجاهلية بأن الرميم لا يمكن لها أن تعود للحياة. اليوم، يستطيع العلم أن يعيد تشكيل جينة الإنسان من رمّة، وإلا كيف عرفنا أن جينة الإنسان مشتركة مع النياندروتال؟ الأعذار الذي استخدمها السابقون لم تعد حجة اليوم، بل الحجة في عكسها. وهكذا كان القرآن متقدما بالذكر حيث يعلم أن الإنسان سيكتشف يوما ما هذا السر ليؤكد قدرة الخالق على إعادة المخلوق في أي وقت يشاء.
سبحان الله وتعالى الله عما يصفون. نكتفي بهذا القدر، ونترك المجال لكم في القراءة والتدبر. ولا تبخلوا علينا وعلى الآخرين بطرح أفكاركم ومشاركتنا اكتشافاتكم.
محمد حسين آل هويدي
الخميس، 09 أبريل، 2020