مايسطرون
2020-05-09

بضاعة مزجاة


بسم الله الرحمن الرحيم – … «87» فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ «88» … – صدق الله العظيم – يوسف.

الوقت كان الشيء الوحيد الذي امتلكناه في صغرنا. لم نحظَ بهواتف ذكية أو ألعاب إلكترونية. كان أي زواج فرحا للجميع حيث يتشارك الناس فيه بما يستطيعون. في صغرنا، يجعلوننا نُصَفِّي أرز البشاور الممزوج بقشوره (شلوب) مع النساء وكنا نسعد بهذا الفعل. جيل العصر قد لا يعرف هذا المعنى لأن الأرز الذي يصلنا اليوم صافٍ من خشونة القشور. ربما نرى هذا النوع من الأرز في الدول الفقيرة – أنا لا أعلم.

لم تمر على هذه القضية أربعين سنة واستطاع المصدّرون لهذا الأرز من الدول الفقيرة إيجاد وسائل وحلول لتنقية المحصول من القشور بصورة فعّالة. ولعمري، المزارعون بسطاء جدا، ولكن كي يبيعوا بضاعتهم، حرصوا على جودتها بشتى السبل لأنه مصدر رزقهم، ولعلمهم أن لا حظوظ للبضاعة المزجاة في الدول الغنية.

مصطلح مزجاة لا يقف عند معنى ثابت ويختلف المفسرون في التعامل معه، ولكن من سياق الآية يتضح أنها بضاعة رديئة؛ على الأغلب مخلوطة (ممزوجة)، وعلى سبيل المثال الأرز الممزوج بقشوره وتكثر فيه بصورة ملحوظة. والتعامل مع هذا النوع من البضاعة متعب ولا يناسب الموفورون، كما كان عليه أهل مصر سابقا نسبة إلى أهل البادية الذين لا يجدون خيارات وبدائل غير تعاملهم مع بضائع مزجاة. ولو أتيح لهم الخيار ما أكلوها أو تعاطوا بها. ربما، ما يستخدمه الموسرون كعلف لبهائمهم يكون طعاما لقوم آخرين. الغنى ليس فخرا والفقر ليس عيبا، ولكن كل يعيش بحسب إمكانياته.

تقريبا، كل الحضارات ورثت عقائد وعلوما وأعرافا وثقافات مختلفة؛ أكثرها مزجاة. قليل من العاملين عليها استطاعوا فرز اللب عن القشر وقدموا الثمرة بصورة مستساغة للمستهلكين. هذا ما حاول أن يفعله الفلاسفة ونال الفردُ منهم ما نال من سوء معاملة؛ وهكذا تم سجن سقراط وقتله بِسُمِّ الشوكران، وذلك لأنه نزل للشارع يحرض الناس على التفكير النقدي وتحريك عقولهم وتحفيز أسئلتهم. ومن العجيب أن سقارطة الحاضر ينالون ما ناله عرابهم الأكبر، ولو أتيح للبعض من تصفية إرث سقراط لما توانوا لحظة، خصوصا أن أكثر الناس اعتادت ليس فقط على البضائع المزجاة ولكن يبدو أن الكثير منهم استساغ القشر أكثر من اللب. ويبدو أن من يهمهم الأمر يعرفون هذه الحقيقة فأبقوا على القشور ليس عجزا منهم لتنقية المحصول ولكن لعلمهم أن الأكثرية لا يهمهم اللب كثر ما أدمنوا على القشور. هذا إذا أُحْسِن الظن في المعنيين، وإلا إن كانوا لا يميزون بين القشر واللب فتلك والله النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، ولا بائقة عاجلة.

نعيش اليوم عصر المفاجآت والجوائح والانفتاح الذي فاق كل التصورات والمخيلات. من يعيشون الواقع يشعرون بهذا الاضطراب. وصل العارف فيه إن تكلم ندم وإن سكت غبن. الكثير من الأمم، وخصوصا عند شريحة الشباب، لم تعد تقبل البضاعة المزجاة خصوصا بعد أن ذاقت حلاوة البضاعة المنقاة والمنتقاة في مقاعد الجامعات العالمية والتي يتم تنقيتها وغربلتها باستمرار ومن كل شائبة يتم ملاحظتها مع الاعتراف بوجود هذه الشوائب وبكل صدق. من يذق حلاوة العلوم التي تعترف بوجود الخطأ فيها وتحاول جادة من تنقية ما شابها يعرف مرارة النقيض الذي يظن بعصمة ما يملك وإن لم يصرح، ويغضب لكل صوت مصلح محاولا إسكاته بالعصا أو الجزرة، بالتسقيط أو الميانة، وذلك بدلا من أن يتعاضد الاثنان ويشدا على أيديهما لأخذ السفينة إلى بر الأمان.

لم تعد البضاعة المزجاة مقبولة إطلاقا وإن ناسبت أصحاب العقليات الماضية. البضاعة المزجاة خليط من الجيد والرديء. إن لم يجهد المختص في غربلة المادة كما جهد العاملون البسطاء في تنقية الأرز فإن بضاعتهم سترد إليهم وتنقلب عليهم ما لم يستوعبوا الدروس الماضية ويعيشوا الأحداث الجارية ويستشرفوا المستقبل بعيون ثاقبة. إن راهن هؤلاء على من لا يميز بين البضاعة النقية والمزجاة منها فإن رهانهم خاسر وذلك لأن الرهان على هذه الشرائح يضر أكثر مما ينفع. إن تخلى المفكرون والمثقفون والمتعلمون عن عهد ورثه الناس من خلال بضاعة مزجاة فلن تكون لهذه البضاعة رافعة.

المهندسون والمخترعون الحصيفون يخترعون ويقرؤون ردود فعل الناس، وليس من العقلانية أن يستمروا على بضاعة ترفضها العقول وتقبل عليها الفدام. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه ولم يتدارك المعنيون الأمر فإن العواقب لن تكون محمودة. وبحسب قراءتي للأرض فإن زمام الأمور ستفلت لأن المعنيين بين مطرقة أهل الفهم وسندان أصحاب الغفلة. التركيز على أعداد النوع الثاني لن يجدي نفعا لأنه سيكون محملا ثقيلا وغبا وبيلا. والغطاء بدأ ينكشف وبان ما وراؤه من بؤس وضراء.

اللهم أني بلغت. اللهم فاشهد. وكالعادة، أنا متيقن من أن البعض سيتركون لبّ الموضوع وسيتشبون بمعنى “مزجاة” الذي في رؤوسهم كون عقولهم لم تتربَ أو تنشأ على قراءة ما بين السطور أو استخلاص لب الموضوع بدلا من قشوره وأمثلته.

محمد حسين آل هويدي
‏‏السبت‏، 09‏ مايو‏، 2020م
‏السبت‏، 16‏ رمضان‏، 1441هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى