
فالقوة الحقيقية اليوم، تتكثف في مستوى التناغم بين مؤسسة الدولة والمجتمع بمختلف تعبيراته وشرائحه.
والفرصة اليوم مؤاتية للقيام بصنع فرص ومبادرات في هذا السياق.
من أين تستمد الدول قوتها، وما هو المعيار الحقيقي والجوهري لتحديد قوة الدولة أو ضعفها. حيث من
الضروري على المستويات االستراتيجية والسياسية واالقتصادية، أن نحدد المعيار األساسي الذي يحدد قوة
الدول وضعفها. وذلك حتى يتسنى لنا كشعوب ومجتمعات من العمل من أجل توفير عناصر القوة في فضائنا
ودولنا، وطرد كل عناصر الضعف والتراجع.
لإلجابة على هذا السؤال المركزي، بإمكاننا القول ان الكثير من االجابات والتصورات نستطيع اختزالها في
اجابتين ورؤيتين وهما:
1 – إن الدولة القوية، هي التي تمتلك امكانات عسكرية واقتصادية هائلة، وتتمركز كل القرارات والصالحيات
في يدها. فتساوق هذه الرؤية بين المركزية والقوة.
فالدول ذات الطابع الشمولي والمركزي في سياساتها واقتصادها هي من الدول القوية، حتى ولو كان الشعب
يعيش القهر والحرمان واالضطهاد. والمشروعات التقدمية التي سادت المجال العربي في الحقب الماضية،
أيدلوجياً. لذلك رفعت
عملت على تأكيد هذه الرؤية، واعطائها بعدا هذه المشروعات شعارات: ال صوت يعلو ً
فوق صوت المعركة، ووحدة العرب في قوتهم. والمقصود بالقوة هنا القوة العسكرية والمادية. ولكننا وبعد
تجارب ومحن مريرة مع هذه المشروعات لم ننجز قوتنا القادرة على حمايتنا من المخاطر الخارجية والتحديات
الداخلية. ولم نحقق انتصارنا على عدونا الحضاري التي توقفت كل المشروعات والسياسات من أجل التركيز
على محاربته ودحره. ولكننا على الصعد كافة لم نحصد اال الهزائم واالنكسارات واالخفاقات.
فالمليارات التي صرفت على مؤسساتنا العسكرية والدفاعية لم تمنع العدو من الوصول إلى عواصمنا ومناطقنا
ة. والمركزية في اإلدارة وصنع القرار، التي طبلنا لها كثيراً الحيوي لم نحصد من ورائها إال التأخر عن ركب
الحضارة والعالم المعاصر.
ولقد أبانت لنا التجارب الماضية والمعاصرة، أن قوة الدول العسكرية ليست هي القوة الحقيقية القادرة على
انجاز تطلعات الشعب أو الدفاع عن أمنه وحدوده. بل على العكس من ذلك حيث ان الدول التي استندت في
بناء قوتها على هذه الرؤية لم تصمد أمام األزمات والتحديات.
فاالتحاد السوفياتي بكل ما يمتلك من ترسانة عسكرية ضخمة وأجهزة أمنية عمالقة، لم يستطع الصمود أمام
تطلعات شعوبه المشروعة. فتالشى في فترة زمنية وجيزة.
والعراق هذا البلد الذي يمتلك أقوى الجيوش وأقسى األجهزة األمنية والقمعية وصلت الواليات المتحدة
( يوما 130 )قتيالً.. ً األميركية إلى عاصمته في غضون )20 فقط و)
فالدول التقدمية وااليدلوجية، والتي استخدمت كل امكانات الدولة لتعميم أيدلوجيتها وقهر الناس على خياراتها
ومتبنياتها السياسية والثقافية، هي ذاتها الدول التي أجهضت كل مشروعات التحرر الحقيقي والخروج من
مآزق الراهن.
ودول المشروع التقدمي لم تزدنا إال ضعفاً وتشاؤماً، وذلك ألن اإلنسان هو أرخص شيء لديها. تصادر
حرياته، تمتهن كرامته، تحاربه في رزقه وكسبه، يقهر ويهان ويسجن ويعذب ألتفه األسباب.
دولة اختزلت الجميع في دائرة ضيقة، ال تتعدى في بعض األحيان شخص األمين العام.
وال نعدو الصواب حين القول: بأن هذه الدولة بنمطها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها،
أجهضت الكثير من اآلمال والتطلعات. وال يمكن بأي حال من األحوال، أن نقول عن هذه الدول بأنها دول
قوية. وذلك ألنها لم تستطع أن تنجز مشروعاتها وأهدافها بل على العكس من ذلك، حيث انها أنتجت النقيض.
فأنتجت االستبداد والقمع وتكميم األفواه بدل الحرية، وتحولت إلى مزرعة خاصة لفئة محدودة بدل العدالة
واالشتراكية، وعمقت في الفضاء االجتماعي والسياسي كل مستلزمات التفتت والتجزئة والتشظي بدل الوحدة
واالتحاد.
وهكذا نصل إلى حقيقة شاخصة، تبرزها خبرة اإلنسانية جمعاء عبر العصور، ان الدولة التي تنفصل عن
مجتمعها وتحاربه في معتقداته واختياراته الثقافية والسياسية، وتفرض عليه نظاما ، فإن مآلها الفشل ً قهرياً
وفقدان المعنى من وجودها.
2 – إن قوة الدول تقاس بمستوى ديمقراطيتها وانسجامها على صعيد الخيارات والسياسات مع شعبها
ومجتمعها.
والثروات الطبيعية واإلمكانات العسكرية، ال تتحول إلى عنصر قوة، حينما يكون هناك جفاء بين الدولة
والمجتمع. ونحن نرى أن هذا هو المعيار الحقيقي لقوة الدول وضعفها.
فالدولة التي تعيش التوتر مع شعبها، وال تنسجم خياراتها مع خياراته، فهي دولة ضعيفة في المحصلة النهائية
حتى ولو امتلكت كل الثروات واالمكانات العسكرية. أما الدولة التي تشرك شعبها في القرار وصناعة المصير،
وديمقراطية في بنيتها وممارساتها، فهي دولة قوية وقادرة على مجابهة المخاطر حتى ولو كانت فقيرة في
مواردها وثرواتها وامكاناتها العسكرية.
فقوة العرب والمسلمين اليوم، في حريتهم ومستوى انسجام الدولة مع خيارات وتطلعات شعبها.
والديمقراطية هي حجر األساس في قوة الدول وضعفها. لذلك فإننا نرى أن كل مبادرة، تأخذها الدولة،
وتستهدف توسيع مستوى المشاركة الشعبية في صناعة القرار وتسيير األمور، هي مبادرة وخطوة تساهم في
تعزيز قوة الدولة، أو بناء هذه القوة على أسس جديدة أكثر قدرة وفعالية.
وإن النهج السياسي المعتدل، والذي يتعاطى مع كل األمور والقضايا والحقائق السياسية واالجتماعية بعقلية
منفتحة ومتسامحة، هو القادر على توسيع هوامش الحرية فالمجتمع، وهو المؤهل لمراكمة الفعل السياسي
الراشد في المجتمع. وفي المقابل فإن النهج االستئصالي، هو الذي يفاقم األزمات ويعقدها ويحول دون بلورة
نهج سياسي معتدل، وي دخل الدول والمجتمع في دوامة العنف والتطرف.
إننا مع الدول القوية التي تستند على القانون وتحترم حقوق اإلنسان، وتدافع عن كرامة شعبها. حيث ان الدولة
القوية المسيجة بسياج القانون والحرية والمسؤولية، هي القادرة على التفاعل والتكامل مع مجتمع مؤسسي –
مدني، يمارس و ظائفه الحضارية اعتماداً على امكاناته وآفاقه.
وإن التحول نحو الحرية والديمقراطية في أي مجتمع، بحاجة إلى وعي عميق بضرورتها وأهمية وجودها في
البناء الوطني السياسي والثقافي والحضاري، وهذا الوعي بحاجة لكي يترجم إلى وقائع قائمة وحقائق مشهودة.
وأن تنمية روح المسؤولية والتسامح والحقوق والكرامة، كلها عوامل تساهم في تنمية الحس الديمقراطي في
المجتمع.
وإننا وفي ظل هذه التطورات المتسارعة والتحديات المتالحقة، أحوج ما نكون إلى ممارسة القطيعة المعرفية
والعملية مع تلك الرؤية التي تتعامل مع مفهوم القوة بعيدا المجتمع وتطلعاته المشروعة. وبناء ً عن خيارات
مفهوم القوة ليس على أساس امتالك أحدث األسلحة. أو ضخامة الترسانة العسكرية، وإنما على أسس التوافق
واالنسجام بين الدولة والمجتمع.
هذا االنسجام الدينامي والفعال هو أساس قوة الدولة. وال يمكن لنا وفي ظل هذه الظروف إال االنخراط في
مشروع تصحيح العالقة وبناء القوة على أساس االنسجام بين الدولة والمجتمع. وال ريب أن تحقيق االنسجام،
يتطلب من الدولة القيام بخطوات ومبادرات، تستهدف توسيع المشاركة الشعبية وإزالة االحتقانات وتوسيع
القاعدة االجتماعية للسلطة.
فالقوة الحقيقية اليوم، تتكثف في مستوى التناغم بين مؤسسة الدولة والمجتمع بمختلف تعبيراته وشرائحه.
والفرصة اليوم مؤاتية للقيام بصنع فرص ومبادرات في هذا السياق.
والوظيفة الكبرى للجميع تتجسد في تكثيف الفعل الثقافي واالجتماعي لتحرير دينامية التحول الديمقراطي من
كوابحها ومعوقاتها الذاتية والموضوعية، حتى تأخذ الديمقراطية موقعها األساس في تنظيم الخالفات وضبطها،
وحتى تتجه كل الجهود والطاقات نحو البناء والسلم واالندماج االجتماعي والوطني، وتعميق موجبات العدل
والمساواة والمسؤولية.
واالستقرار السياسي اليوم، ال ينجز في الكثير من الدول والبلدان العربية واإل سالمية، إال بتوافق حضاري بين
الدولة والمجتمع. واإلخفاق هو نصيب أي مشروع يقصي المجتمع ويهمش دوره في الحياة. كما أن النجاح
تتبلور أسبابه وتتجمع عناصر ارادته من خالل التوافق الحضاري بين الدولة والمجتمع. والتوافق هنا يعني
المشاركة والتفاعل والمراقبة والشهود والتكامل.