
أنا من الأشخاص الغير مهتمين بالمنافسات الرياضية محلية كانت أو على مستوى الدول والقارات ولكني كغيري أيضا أتأثر بالأحداث والفعاليات وانعكاساتها الإنسانية والثقافية والرياضية وغيرها خصوصا ذلك الحدث الذي حدث بالأمس القريب على ارض دولة قطر الصغيرة بالمساحة لكنها احتوت جل العالم إن لم يكن كله، حتى حفيدتي البالغة خمسة أعوام تركت مشاهدتها لقنوات الأطفال واتجهت لمشاهدة المباراة النهائية على بطولة كأس العالم والمفارقة أنها كانت تردد اسم رونالدو، وتمنت فوز فرنسا، وفي النهاية نسبت كل أهداف المباراة الى ميسي!!
بعيد توشيح الشيخ تميم الشيخ ميسي بالبشت النجفي، واحتضانه لكأس البطولة وتقبيله الذهب واخذ الصور التذكارية مع رفاقه ابتهاجا بالفوز الذي تحقق، جلس الشيخ ميسي عند جانب من منصة التتويج تحوط به عائلته الصغيرة وكان أحد أبنائه يجلس في حجره وكأنه يقول له يا صغيري أنت هو الفوز الحقيقي إن التزمت نهجي وسرت بسيرتي.
بالنسبة لي طبعا استمتعت بمشاهدة أحداث المنافسة لكن ما شدني أكثر هو تعليق أحد المعلقين الرياضيين على قناة الكأس الذي لم يتوقف لسانه على طول وقت المبارة وهو يلهج بالإشادة ببطلي المناسبة وهدافيها الفرنسي بمبابي، والأرجنتيني ميسي، وشدد على احترام الشيخ ميسي وفي سياق حديثه ذكر أن من لا يحترمه عليه أن لا يعد نفسه رياضيا.
دعوة المعلق لاحترام الشيخ ميسي والذي كان يمثل كل الفريق الأرجنتيني ومن سانده من إداريين ومدربين وفنيين، وأمواج بحر جماهيري منقطع النظير، عزف وهتف وانشد وتراقص من على مدرجات الأستاذ الرياضي وتجمهر ومعه جماهير العالم في الميادين والساحات هو احترام للبذل والعطاء والجد والإخلاص وإتقان العمل وتحقيق الأهداف وتقديرا لتلك الإنجازات التي تتطلب الوقت واكتساب الخبرة و المهارة والصبر والتصميم وهي تستغرق وقت ليس بالقصير ينصرم فيه جزء كبير من عمر الإنسان فيكون ما ينجزه هو ثمرة لتلك المعاناة خلال سنين طويلة ينبغي تقديرها واحترامها وعدم التنمر عليها وحفظ مكانتها.
يقال إن هذه المنافسة هي آخر منافسات الشيخ ميسي، أمد الله في عمره وأطال بقاؤه في خير وعافية.. فهل يا ترى يجد له الآن مشتر يشتريه أم يحل به ما حل بمتقاعدي مملكة قديم الزمان حيث عاش فيها ملك عظيم، ومثل أكثر ملوك الخراريف كانت أحكامه تصدر أجلكم الله من بابوجه. إلّا أن حماقات الملوك، في ذلك الزمان، كانت تتم بإرادة الله – هكذا كانوا يقولون – وكلّما تجاوزت حماقة أحدهم حدود المألوف اعتبرنا ذلك تمييزًا له من الله عن سواه، تمامًا مثل بعض الأقوال والكتابات المبهمة كلّما تخزبقنا في فهمها حسبناها من ضروب البلاغة.
والمعروف أنّ بعض ملوك الزمان كانوا يصرفون الرجال من الخدمة في الخامسة والستّين، وأحيانًا في الثالثة والستّين. يُقال إنّ الحكمة من هذا التدبير هي أنّ الرجل في هذه السنّ يوشك أن يبلغ من العمر أرذله، فتصرفه الدولة من خدمتها ليتفرّغ ما أمكن لخدمة زوجته.
لكنّ ملك خرافتنا كان أحكم من جميع ملوك الزمان، فعرف بثاقب رأيه أنّ الرجل في هذا العمر يصبح مثل الجنديّ بدون تفق، فتقول له زوجته: “عرفناك بالنهار وعرفناك بالليل”، ومن لا يصلح لخدمة الدولة لا يصلح لخدمة زوجته، فإذا فقد الرجل ثقة حكومته ثمّ ثقة زوجته به كان موته أفضل من حياته، وهذا ما عناه عنتر بن شداد بقوله:
موت الفتى في عزّه خير له
من أن يعيش مجلببًا بتذلّل
لذلك، وحفاظًا على كرامة الرجال من شماتة النساء، قرّر الملك إعدام كل رجل يبلغ الخامسة والستّين، وهكذا كان. وبعد وقت قصير هبّت على البلاد عاصفة عاتية، فانحبس المطر ويبس الزرع وجفّ الضرع، فلجأ الملك إلى تدبير سريع: أمر رجاله أن يحصدوا العاصفة!! وحصاد العاصفة عند بعض ملوك الزمان تدبير معروف، لذلك قيل: “من يزرع الريح يحصد العاصفة”، لأنّ بعض ملوك الزمان كانوا يحصدون ما زرعوه في أغلب الأحيان.
وهبّ أبناء ذلك الزمان، طبعًا، إلى مناجلهم يحصدون العاصفة بلا هوادة، يوميًّا من “غبشه لين لسلوم”، دون أن يترك لهم مجالًا للراحة. فكان عملهم مرهقًا وميؤوسًا منه وبدون جدوى. ولاحظ الملك يومًا، وهو يتفقّد حصاد العاصفة، أن أحد الحصّادين كان جالسًا يختلس الراحة وقاط المحش في صوب، وغترته سادلها على كتفه، وعندما اقترب منه قام هذا بحركة غريبة بكلتا يديه، فانتهره، فقال: “المعذرة يا مولاي! جعت ففركت سنبلة ممّا حصدته وأكلت حبوبها، إذ يحقّ للعامل أن يأكل ممّا جناه”. قال الملك: “ولكنّك لم تأكل إلّا الهواء.”
أجاب: “ومن يحصد العاصفة لا يأكل إلّا الهواء.”
فأطرق الملك برهة ثمّ قال: “هذه حكمة من حكم ريايل أول، ولا يمكن أن تصدر عن اصبي مثلك، فقل لي من علّمك أن تفعل ذلك، وإلّا قتلتك؟”
فخاف الشاب وقال: “عفوًا يا سيّدي، عندما أمرتم بقتل كل كبير في المملكة، أشفقت على والدي الشيخ فخبأته في مكان حصين ألجأ إليه كلّما احتجت إلى نصائحه، وهو الذي علّمني أن أفعل ذلك”.
فانفرجت أسارير الملك وقال: “صحيح! اللّي ما عندو كبير يشتري كبير”، فجرى كلامه مثلًا. (شكل الملك شامي عرفته من اللهجة) هذا ويقول بعض الرواة إنّ الأصحّ أن يقال: “اللّي ما عندو كبير يستشير كبير”، والله أعلم.
زبدة الكلام إن كبار السن وأصحاب التجربة والخبرة إذا بلغو سن التقاعد وقلت قدرتهم على مزاولة نشاطاتهم السابقة ينبغي على جميع الأجيال التي تليهم توقيرهم واحترامهم وعدم تسفيه أراءهم والاستفادة من تجاربهم ومكتسباتهم الفكرية والمهنية واتخاذهم قدوة في الجد والعمل والمشاركة الفعالة في تنمية وخدمة المجتمع وعدم التنمر عليهم وتحقيرهم والاستهانة بهم.
حكومة المملكة العربية السعودية والمتمثلة بخادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين أولت اهتمام كبير بكبار السن وأقرت مؤخرا مشروع نظام جديد يمنح كبير السن امتيازات خاصة ويحفظ حقوقه الاجتماعية والمالية والقانونية. فهل أبناء كبار السن يتناغمون مع توجهات حكومتهم بالحرص على العناية بهم وكسب رضاهم والبر بهم وتوقيرهم واحترامهم؟ الجواب، نعم الدنيا ما زالت بخير وجل شبابنا إن شاء الله يحترمون شيابنا.